فصل: تفسير الآية رقم (80):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: محاسن التأويل



.تفسير الآية رقم (79):

القول في تأويل قوله تعالى: {الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [79].
{الَّذِينَ يَلْمِزُونَ} أي: يعيبون {الْمُطَّوِّعِينَ} أي: المتبرعين {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ} فيزعمون أنهم تصدقوا رياءً {وَالَّذِينَ} أي: ويلمزون الذين {لا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ} أي: لا يجدون ما يتصدقون به إلا قليلاً، وهو مقدار طاقتهم.
{فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ} أي: يهزؤون بهم، ويقولون إن الله غنّي عن صدقتهم، {سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ} أي: جازاهم على سَخَرهم {وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}.
روى البخاري في صحيحه عن أبي مسعود رضي الله عنه قال: لما نزلت آية الصدقة، كنا نحامل فجاء رجل فتصدق بشيء كثير، فقالوا: مرائي. وجاء رجل فتصدق بصاع، فقالوا: إن الله لغنيّ عن صدقة هذا، فنزلت: {الْذِينَ يَلْمِزُنَ} الآية، رواه مسلم أيضاً.
وروى الإمام أحمد عن أبي السليل، عن رجل حدثه عن أبيه أو عمه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من يتصدق بصدقة أشهدُ له بها يوم القيامة»؟ فجاء رجل لم أرى رجلاً أشدّ منه سواداً، ولا أصغر منه ولا أدمّ، بناقة لم أر أحسن منها، فقال: يا رسول الله، دونك هذه الناقة. قال: فلمزه رجل فقال: هذا يتصدق بهذه، فو الله لهي خير منه، فسمعها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «كذبت! به هو خير منك ومنها ثلاث مرات»، ثم قال: «ويل لأصحابك إلا من قال بالمال هكذا وهكذا»، وجمع بين كفيه عن يمينه وعن شماله.
قال ابن إسحاق: كان المطّوّعون من المؤمنين في الصدقات عبد الرحمن بن عوف، وعاصم بن عدي أخا بني عجلان، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رغَّب في الصدقة، وحضّ عليها، فقام عبد الرحمن بن عوف فتصدق بأربعة آلاف، وقام عاصم بن عديّ وتصدق بمائة وسق من تمر، فلمزوها وقالوا: ما هذا إلا رياءًَ.
وكان الذي تصدق بجهده أبا عقيل، أخا بني أُنَيْف، أتى بصاع من تمر، فأفرغها في الصدقة فتضاحكوا به، وقالوا: إن الله لغنيّ عن صاع أبي عقيل.
وروى الحافظ البزار في مسنده عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تصدقوا فإني أريد أن أبعث بعثاً»، فجاء عبد الرحمن بن عوف فقال: يا رسول الله! عندي أربعة آلاف، ألفين أقرضهما لربي، وألفين لعيالي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بارك الله لك فيما أعطيت، وبارك لك فيما أمسكت».
وبات رجل من الأنصار فأصاب صاعين من تمر، فقال: يا رسول الله! أصبت صاعين من تمر، صاع أقرضه لربي، وصاع لعيالي. قال، فلمزه المنافقون وقالوا: ما أعطى الذي أعطى ابن عوف إلا رياءً، وقالوا ألم يكن الله ورسوله غنيين عن صاع هذا؟ فأنزل الله الآية.
وقوله صلى الله عليه وسلم «أريد أن أبعث بعثاً» أي: لغزو الروم، وَذَلك في غزوة تبوك.
تنبيهات:
الأول: قال السيوطي في الإكليل: في هذه الآية تحريم اللمز والسخرية بالمؤمنين. انتهى.
الثاني: في: {الَّذيِنَ يَلْمِزُونَ} وجوه الإعراب: خير مبتدأ بتقدير: {هُمُ الَّذيِنَ} أو مفعول أعني أو أذم الذين، أو مجرور بدل من ضمير: {سِرَّهُم}، وجوَّز أيضاً أن يكون مبتدأ خبره: {سَخِرَ اللهُ مِنْهُمْ}، وقيل: {فَيَسْخَرُونَ}، ودخلت الفاء لما في الذين من الشبه بالشرط. وأما: {الَّذيِنَ لَا يَجِدُونَ} إلخ فقيل: معطوف على: {الَّذيِنَ يَلْمِزُونَ} وقيل: على: {الْمُؤْمِنِينَ}، والأحسن أنه معطوف على المطوعين.
قال في الفتح: ويكو من عطف الخاص على العام، والنكتة فيه التنويه بالخاص، لأن السخرية من المقلّ أشدّ من المكثر غالباً.
الثالث: قال في الفتح: قراءة الجمهور: {الْمُطَّوِّعِينَ} بتشديد الطاء والواو. وأصله المتطوعين، أدغمت التاء في الطاء. انتهى.
أي: لقرب المخرج، والتطوع التنفّل، وهو الطاعة لله تعالى بما ليس بواجب.
والجهد، قال الليث: هو شيء قليل يعيش به المقلّ، وبضم الجيم قرأ الجمهور. وقرأ ابن هرمز وجماعة بالفتح، فقيل: هما لغتان بمعنى واحد.
وقيل: المفتوح بمعنى المشقة، والمضموم بمعنى الطاقة، وقيل: المضموم قليل يعاش به، والمفتوح: العمل.
والمختار أنهما بمعنى، وهو الطاقة وما تبلغه القوة. قال الفراء: الضم لغة أهل الحجاز، والفتح لغيرهم. والهزء والسخرية بمعنى.
وقوله تعالى:

.تفسير الآية رقم (80):

القول في تأويل قوله تعالى: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [80].
{اسْتَغْفِرْ لَهُمْ} أي: لهؤلاء المنافقين {أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ} أي: فإنما في حقهما سواء.
ثم بيّن استحالة المغفرة لهم وإن بولغ في الاستغفار بقوله تعالى: {إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ذَلِكَ} أي: عدم الغفران لهم {بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} أي: الخارجين عن حدوده.
تنبيهات:
الأول: جملة قوله تعالى: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ} الخ، إنشائية لفظاً، خبرية معنى.
والمراد التسوية بين الاستغفار لهم، وتركه، في استحالة المغفرة.
وتصويره بصورة الأمر، للمبالغة في بيان استوائهما، كأنه عليه الصلاة والسلام أمر بامتحان الحال، بأن يستغفر تارة، ويترك أخرى، ليظهر له جلية الأمر، كما مر في قوله تعالى: {قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً}، وقد وردت بصيغة الخبر في سورة المنافقون في قوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَوْا رُؤُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ}.
الثاني: قال الزمخشري: السبعون جارٍ مجرى المثل في كلامهم للتكثير. قال عليّ بن أبي طالب عليه السلام:
لأَصْبَحَنَّ العاصَ وابن العاصِي ** سَبْعِينَ أَلْفاًَ عَاقِدِي النَّوَاصِي

أي: فذكرها للمبالغة في حسم مادة الاستغفارلهم، جريا على أساليب العرب في ذكرها للمبالغة لا للتحديد، بأن يكون ما زاد عليها بخلافها.
وقال أبو السعود: شاع استعمال السبعة والسبعين والسبعمائة في مطلق التكثير، لاشتمال السبعة على جملة أقسام العدد، فكأنها العدد بأسره.
وقيل: هي أكمل الأعداد، لجمعها معانيها، ولأن الستة أول عدد تامّ، لتعادل أجزائها الصحيحة، إذ نصفها ثلاثة، وثلثها اثنان، وسدسها واحد، وجملتها سبعة، وهي مع الواحد سبعة، فكانت كاملة، إذ لا مرتبة بعد التمام إلا الكمال، ثم السبعون غاية الكمال، إذ الآحاد غايتها العشرات، والسبعمائة غاية الغايات- انتهى.
الثالث: روى البخاري وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعمر بن الخطاب رضي الله عنه، لما أراد أن يصدّه عن الصلاة على عبد الله بن أبيّ: إنما خيّرني الله فقال: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ} الآية، وسأزيده على السبعين.
فظاهر هذا أن أو للتخيير، وأن السبعين له حدٌ يخالفه حكم ما وراءه، وهو من الإشكال بمكان.
ولذا قال الزمخشري: فإن قلت: كيف خفي على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو أفصح العرب وأخبرهم بأساليب الكلام وتمثيلاته؟ والذي يفهم من هذا العدد كثرة الاستغفار، كيف وقد تلاه بقوله: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا} الآية، فبين الصارف عن المغفرة لهم، حتى قال: قد رخص لي ربي فسأزيد على السبعين.
ثم أجاب الزمخشري بقوله: قلت لم يخف عليه ذلك، ولكنه خيل بما قال إظهاراً لغاية رحمته ورأفته على من بعث إليه، كقول إبراهيم عليه السلام: {وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}.
وفي إظهار النبيّ صلى الله عليه وسلم الرأفة والرحمة لطف لأمته، ودعاء لهم إلى ترحم بعضهم على بعض. انتهى.
قال الشراح: يعني أنه أوقع في خيال السامع أنه فهم العدد المخصوص دون التكثير، فجوّز الإجابة بالزيادة قصداً إلى إظهار الرأفة والرحمة، كما جعل إبراهيم صلى الله عليه وسلم جزاء من عصاني أي: لم يمتثل أمر ترك عبادة الأصنام.
قولَه: {فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} دون أن يقول: شديد العقاب، فخيل أنه يرحمهم ويغفر لهم رأفة بهم، وحثّاً على الإتباع.
وفهمُ المعنى الحقيقي من لفظ اشتهر مجازه، لا ينافي فصاحته، ومعرفته باللسان فإنه لا خطأ فيه، ولا بعد، إذ هو الأصل، ورجحه عنده شغفه بهدايتهم، ورأفته بهم، واستعطاف من عداهم.
قال الناصر: وقد أنكر القاضي رضي الله عنه حديث الاستغفار، ولم يصححه وتغالى قوم في قبوله، حتى إنهم اتخذوه عمدة في مفهوم المخالفة، وبنوه على أنه عليه السلام فهم من تحديد نفي الغفران بالسبعين، ثبوت الغفران بالزائد عليه، وذلك سبب إنكار القاضي عليهم وقيل: لما سوى الله بين الاستغفار وعدمه، ورتب عليه عدم القبول، ولم ينه عنه، فهم أنه خير ومرخص فيه، وهذا مراده صلى الله عليه وسلم، لا أنه فهم التخيير من أو، حتى ينافي التسوية بينهما، المرتب عليها عدم المغفرة، وذلك تطيباً لخاطرهم، وأنه لم يأل جهداً في الرأفة بهم.
قال الشهاب: والتحقيق أن المراد التسوية في عدم الفائدة، وهي لا تنافي التخيير، ثبت فهو بطريق الإقتضاء، لوقوعها بين ضدين لا يجوز تركهما ولا فعلهما، فلابد من أحدهما، فقد يكون في الإثبات كقوله تعالى: {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ}، لأنه مأمور بالتبليغ، وقد يكون في النفي كما هنا، وفي قوله: {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ} الآية، فهو محتاج إلى البيان، ولذا قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: «إنه رخص لي»، ولعله رخص له في ابن أبيّ لحكمة، وإن لم يترتب عليه فائدة القبول. انتهى.
وقال الحافظ ابن حجر في الفتح: روى عبد الرزاق عن معمر، عن قتادة قال: لما نزلت: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: «لأزيدنّ على السبعين»، فأنزل الله تعالى: {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ}
ثم قال: ويحتمل أن تكون الأيتان معاً نزلتا في ذلك. انتهى.
ثم أشار تعالى إلى نوع آخر من مساوئ المنافقين وهو جعلهم الفرح مكان الحزن، والكراهة مكان الرضا. بقوله سبحانه:

.تفسير الآية رقم (81):

القول في تأويل قوله تعالى: {فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَالُوا لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرّاً لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ} [81].
{فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ}، المخلفون: هم الذين استأذنوا رسول الله صلى الله عليه وسلم من المنافقين، فأذن لهم في التخلف كما قلنا، أو لأنه خلفهم في المدينة في غزوة تبوك.
وإيثار: {الْمُخَلَّفُونَ} على المتخلفون، لأنه صلى الله عليه وسلم منع بعضهم من الخروج، فغلب على غيرهم، أو المراد من خلفهم كسلُهم أو نفاقهم، أو لأن الشيطان أغراهم بذلك، وحملهم عليه.
وقوله تعالى: {بِمَقْعَدِهِمْ} متعلق بفرح، أي: بقعودهم عن غزوة تبوك. فمقعد على هذا، مصدر ميميّ، أو هو اسم مكان، والمراد به المدينة.
وقوله: {خِلافَ رَسُولِ اللَّهِ} أي: خلفه، وبعد خروجه، حيث خرج ولم يخرجوا.
فخلاف ظرف بمعنى خلف وبعد.
يقال: فلان أقام خلاف الحي أي: بعدهم، ظعنوا ولم يظعن، ويؤيده قراءة من قرأ: {خلف رسول الله}، فانتصابه على أنه ظرف لمقعدهم، إذ لا فائدة لتقييد فرحهم بذلك.
قال الشهاب: واستعمال خلاف بمعنى خلف، لأن جهة الخلف خلاف الأمام، وجوز أن يكون الخلاف بمعنى المخالفة، فهو مصدر خالف، كالقتال، ويعضده قراءة من قرأ {خُلف رسول الله} بضم الخاء، وفي نصبه وجهان:
الأول: أنه مفعول له، والعامل إما فرح، أي: فرحوا لأجل مخالفته صلى الله عليه وسلم بالقعود، وإما مقعدهم، لأجل مخالفته صلى الله عليه وسلم، فهو علة إما للفرح أو للقعود.
والثاني: أنه حال، والعامل أحد المذكورين، أي: فرحوا مخالفين له صلى الله عليه وسلم بالقعود، أو فرحوا بالقعود مخالفين له.
وقوله تعالى: {وَكَرِهُوا} إلخ أي: لما في قلوبهم من مرض النفاق.
قال أبو السعود: وإنما أوثر ما عليه النظم الكريم على أن يقال: وَكرهوا أن يخرجوا إلى الغزو، إيذاناً بأن الجهاد في سبيل الله، مع كونه من أجلّ الرغائب، وأشرف المطالب، التي يجب أن يتنافس بها المتنافسون، قد كرهوه، كما فرحوا بأقبح القبائح، الذي هو القعود خلاف رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال الزمخشري: في قوله تعالى: {وَكَرِهُوا أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ} تعريض بالمؤمنين، وبتحملهم المشاق العظام لوجه الله تعالى، وبما فعلوا من بذل أموالهم وأرواحهم في سبيل الله تعالى، وإيثارهم ذلك على الدعة والخفض- أي: الراحة والتنعم بالمآكل والمشارب- وكره ذلك المنافقون، وكيف لا يكرهونه؟ وما فيهم ما في المؤمنين من باعث الإيمان، وداعي الإيقان.
قال الشهاب: ووجه التعريض ظاهر، لأن المراد كرهوه، لا كالمؤمنين الذين أحبوه.
وقوله تعالى: {وَقَالُوا لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ} أي: قالوا لإخوانهم لا تنفروا إلى الجهاد في الحر، فإنه لا يستطاع شدته.
وذلك أن الخروج في غزوة تبوك كان في شدة الحر، عند طيب الظلال والثمار، وذلك تثبيتاً لهم على التخلف، وتواصياً فيما بينهم بالشر والفساد، أو قالوا للمؤمنين تثبيطاً لهم عن الجهاد، ونهياً عن المعروف، وإظهاراً لبعض العلل الداعية لهم إلى ما فرحوا به من القعود وكراهية الجهاد، ونهي الغير عن ذلك- أفاده أبو السعود-.
وقوله تعالى: {قُلْ} أي: ردّاً عليهم وتجهيلاً لهم: {نَارُ جَهَنَّمَ} أي: التي ستدخلونها بما فعلتم: {أَشَدُّ حَرّاً} أي: مما تحذرون من الحرّ المعهود، وتحذّرون الناس منه، فما لكم لا تحذرونها، وتعرضون أنفسكم لها، بإيثار القعود على النفير.
وقوله تعالى: {لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ} اعتراض تذييلي من جهته تعالى، غير داخل تحت القول المأمور به، مؤكد لمضمونه.
وجواب لو إما مقدر، أي: لو كانوا يفقهون أنها كذلك، أو كيف هي، أو أن مآلهم إليها لما فعلوا ما فعلوا، أو لتأثروا بهذا الإلزام، وإما غير منويّ، على أن لو لمجرد التمني المنبئ علن امتناع تحقق مدخولها، أي: لو كانوا من أهل والفقه الفطانة، كما في قوله تعالى: {قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْأياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ}
كذا في أبي السعود.
تنبيهان:
الأول: قال الزمخشري: قوله تعالى: {قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ} الخ، استجهال لهم، لأن من تصوّن من مشقة ساعة، فوقع بسبب ذلك التصون في مشقة الأبد، كان أجهل من كل جاهل. ولبعضهم:
مسرة أحقاب تلقيت بعدها ** مساءة يوم، أريها شبَه الصاب

فكيف بأن تلقي مسرة ساعة ** وراء تقضيها مساءةُ أحقاب

انتهى.
أي: فهم كما قال الآخر:
كالمستجير من الرمضاء بالنار

وقال آخر:
عمرك بالحمية أفنيته ** خوفاً من البارد والحار

وكان أولى لك أن تتقي** من المعاصي حَذر النار

الثاني: روى الإمام مالك والشيخان عن أبي هريرة عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «نار بني آدم التي يوقدون بها جزء من سبعين جزءاً»، زاد الإمام أحمد: «من نار جهنم».
وروى الشيخان عن النعمان بن بشير قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن أهون أهل النار عذاباً يوم القيامة، لَمَن له نعلان وشراكان من نار يغلي منهما دماغه كما يغلي المرجل، لا يرى أن أحداً من أهل النار أشد عذاباً منه، وإنه أهونهم عذاباً».
ثم أخبر تعالى عن عاجل أمرهم وآجله من الضحك القليل، والبكاء الطويل، المؤدي إليه أعمالهم السيئة، التي من جملتها ما ذكر من الفرح، بقوله سبحانه: